الليلة الأولى
انطفأت الأنوار... و عم الظلام أرجاء المنزل... و ساد الصمت و الهدوء... و بدا كل شيء عاديا و طبيعيا...
اتجهت إلى غرفة النوم... فرأيت بها جسدا مستلقيا فوق فراشه دون حراك... خلته في الوهلة الأولى نائما... و ما إن اقتربت منه حتى اكتشفت الحقيقة... لقد كان جسدا باردا .. وجهه أصفر ... عيناه جاحظتان.. و قلبه توقف عن النبض بعد أن ظل طيلة حياته ينبض بحبه ...
تملكتني الرهبة ... و ذرفت عيناي الدمع دون أن أقوى على منعها...
إنه الموت .... يحي بداخلنا ما عجزت الحياة عن إحيائه.
***
الليلة الثانية
اكتظ المكان بالأهل و الأحباب ... و أضيئت جميع الأنوار ... و ارتفعت الأصوات بالحديث و التأوه و البكاء... و أصدرت في بعض الأحايين ضحكات خافتة خفية... و تناقلت الأيدي كؤوس الشاي ... و امتلأت الموائد بالأطعمة....
و بعد أن بدأ الليل يحث خطاه نحو الفجر... انطفأت الأنوار... و سكن المنزل... و استراحت الأجساد في فراشها... لكنها كانت أجسادا تتحرك..
و أخذت أتأمل فراش غرفة النوم ... فخيل إلي أنني أرى الجسد مستلق فوق فراشه... بوجهه الأصفر.. و عينيه الجاحظتين... ثم رأيته يتململ و يلتفت نحوي و يهمس بصوت حزين:
لم يعد ..!!
هممت بالتخفيف عنه بكلماتي المزيفة... لكنه أشار إلي بلطف .. أن اصمت ، ثم قال و هو يبتسم ابتسامة حزينة : لم يعد .. إنها الحقيقة ...لم يعد و قلبي ينبض بحبه ، و لم يعد حتى بعد أن توقف قلبي عن النبض.
قلت له و أنا مطأطأ الرأس : سامحني لقد خدعتك.
تنهد و قال : و ما ذنبك أنت.. هو الذي خان و غدر
قلت : لقد خدعتك عندما أخفيت عنك الحقيقة
انتفض جالسا.. و مد يده نحوي.. و أمسك بخيط من خيوط ضيائي، و قال متسائلا: و هل تعرف الحقيقة ؟
قلت : نعم
فسألني برجاء: و ما الحقيقة؟
قلت : لقد مات...
ظننت أنه سوف يجهش بالبكاء أو يصرخ.. لكنه ظل صامتا.. و زادت برودته.. و زاد ضغط يده على خيط ضيائي .. ثم رفع رأسه نحوي .. فرأيت في عينيه دموعا حبيسة..
قال باستغراب : .. مات ابني..
قلت : رأيته في إحدى الليالي كنت قرب البحر.. يصارع الأمواج .. بعد أن خانه قارب الموت و غدر.
قال: أدفعت ثمن موته.. حينما بعت جواهر الذهب.. ليجد له مكانا بالقارب، فيهاجر إلى هناك .. حيث الأحلام و الآمال..؟..... أرجوك قل أنك الآن تخدعني و ما كنت من قبل إلا صادقا معي.!!.
همس الليل إلي : أن استعد.. قد قرب وقت الرحيل
اقتربت منه لأودعه.. فألح علي قائلا: أرجوك قل أنك الآن تخدعني و ما كنت من قبل إلا صادقا معي.!!..
فهمست إليه بما كنت أرد به دائما على شكواه من جفائه: سيعود... عندما يستقر و يحقق الآمال... سيعود..
ابتسم ابتسامة امتنان و شكر... ثم استلقى فوق فراشه ... جسدا باردا... وجهه أصفر... عيناه جاحظتان.... و قلبه توقف عن النبض بعد أن ظل طيلة حياته ينبض بحبه.