فلأنه لم يجد أمامه قدوات أو مثل عليا تجسد له القيم والأخلاق، لأن الإنسان الغربي لم يجد أمامه القدوة والرمز، ولا يجد أمامه أفراداً طبقوا هذه المبادئ، فلا يتمكن أن يدرك قابلية هذه المبادئ للتطبيق... بينما الإسلام حل هذه المشكلة، فوضع لنا قدوات ومثلاً عليا، ورموزاً تجسد القيم والأخلاق.
وطبعاً أن الأفكار والمبادئ التي طبقها الإنسان، والقيم التي تتجسد في قالب البشر، تكون أقدر على التأثير من مجرد النظريات الذهنية، فالرسول (صلّى الله عليه وآله) هو الإسلام المجسد، وهو القيم التي تجسدت في قالب الإنسان، وهو القرآن الذي يمشي على قدمين.
(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ).
أذن الحاجة إلى القدوة والمثل الأعلى تدفعنا إلى التعرف على قادتنا... وفي مقدمة القدوات الخيرة في تاريخنا الإسلامي شخصية النبي (صلّى الله عليه وآله)... إن الله سبحانه وتعالى يقول:
(وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)، (لِئَلاَ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).
فدور الرسل ودور النبي هو إتمام الحجة على الناس.
فإذا كان المطلوب منا أن نعبد الله فما هي درجة العبادة، وما هو مقياس العبادة؟ يمكن أن نجد المقياس في سلوك النبي الذي كان يقف للعبادة طيلة الليل حتى تورمت قدماه، حتى نزل قوله تعالى:
(طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى إِلاَ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى)
فهذا يعني أن النبي وهو في قمة المسؤولية، تجده اكثر الناس عبادة وانقطاعاً إلى الله، فالقيادة تعني التزام المسؤولية، والإنسان القائد اكثر الناس مسؤولية من غيره، وليس القيادة مجرد لقب أو مجرد امتياز أو مجرد وسيلة للحصول على الامتيازات الشخصية.
القيادة في مفهوم الإسلام وكما تبرزها سيرة النبي تعني قمة المسؤولية، أو كلما كان تحمل الإنسان للمسؤولية أكثر كان أجدر بالقيادة، وكلما كان مستوى الإنسان أعظم من غيره فهو أكثر مسؤولية، ويجب أن يدفع ضريبة القيادة بتحمل مزيد من الآلام والصعوبات وتقديم التضحيات في سبيل المبدأ والقضية، ويكون في طليعة الأمة وفي الخطوط الأمامية في ساحات الجهاد والفداء... كما قال الإمام علي (عليه السلام) عن رسول الله:
(كنا إذا حمي الوطيس لذنا برسول الله وكان أقربنا إلى العدو).
وفي الحديث: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الذين يلونهم، الأمثل فالأمثل).
القيادة مسؤولية وليست امتيازاً، هذه النقطة الثانية.
النقطة الثالثة: نريد أن نعرف من خلال السيرة النبوية تلك الروح التي بعثها النبي (صلّى الله عليه وآله) في جسد الأمة تلك الروح التي بعثها رسول الله في الحياة، فأصبحت هذه الروح هي الحاكمة على الحياة، يقول النبي:
(بعثت أنا والساعة كهاتين)
وجمع بين السبابة والوسطى، يعني أن رسالة النبي تحكم الحياة وتكون خالدة كخلود الزمن لا يطرأ عليها تغيير ولا تبديل، وتكون رسالة الإسلام متصلة بيوم القيامة، والإسلام يحكم الحياة والعالم.
فهذه الروح التي أطلقها النبي وحوّل تلك المجموعة الجاهلة المسحوقة المحرومة من الثقافة والعلم ومن كل شيء حوّلها بعد أقل من ربع قرن إلى حملة مشاعل الحضارة والحرية إلى العالم.
فقد كانوا مجموعة من الحفاة المسحوقين كعمار، وأبي ذر، وسمية، وياسر، وصهيب، بلال، فما هي تلك الروح التي بعثها النبي فيهم.
هذه الروح التي تجسدت في ذلك الصمود الرسالي الذي أبداه (بلال) تحت سياط التعذيب الجاهلي على أيدي أسياد قريش، فكانوا يأتون به ويعرونه من ملابسه ويرمون به على رمضاء الصحراء العربية، ويحمون الصخور بالنار، ويلقونها عل صدره وظهره، ويلهبون جسده بالسياط وهو لا يزداد إلا إصراراً وصموداً، كلما زادوا في تعذيبه وتنكيله وطلبوا منه أن يكفر بمحمد (صلّى الله عليه وآله) أو يتراجع عن عقيدته، فلا يفتأ أن يردد كلمة: أحد، أحد أو نقرأ صورة أخرى تجسد هذه الروح أيضاً في هذه النماذج الرائعة من صحابة النبي:
جاء رجل من الأعراب إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) فآمن به وتبعه فقال: أهاجر معك، فأوصى النبي به بعض الصحابة.. فلما كانت غزوة خيبر غنم الرسول شيئاً فقسمه وأعطى لهذا الأعرابي حصة من الغنائم، فقال الأعرابي للرسول: ما على هذا اتبعتك. قال له رسول: على ماذا اتبعتني؟ قال: اتبعتك على أن أرمى هاهنا (وأشار إلى حلقه) بسهم فأموت فأدخل الجنة، فقال الرسول: إن تصدق الله ليصدقنك الله.
ثم نهض إلى القتال فأوتي به إلى النبي وهو مقتول وقد أصيب في منحره بسهم وقضى شهيداً، فقال رسول الله: (صدق الله فصدقه). يعني كان صادقاً مع الله وأعطاه الله حسب نيته.
فهذا الوعي بل قمة الوعي بلغ إليها هؤلاء بفضل الروح التي نفخها النبي فيهم.
ورواية أخرى عن (عبد الله الجموح) الرجل المعروف كان أعرج وأراد الخروج مع النبي إلى حرب أحد فحاول أولاده أن يمنعوه من الخروج، فاشتكى لرسول الله وقال: إني أرجو أن أعرج الليلة إلى الجنة، أو (أطأ بعرجتي هذه الجنة) فأذن له رسول الله وقتل هو وأولاده الأربعة وشقيق زوجته فجاءت أرملته بعد المعركة وحملت زوجها وأخاها وأولادها الأربعة على جمل ودفعت بهم إلى المدينة فقابلتها النساء واستقبلنها على باب المدينة، وسألنها عن الأخبار فقالت:
(أما رسول الله فبخير وكل مصيبة بعده تهون)، فسألنها: وما هذه الجثث، فقالت: هؤلاء أولادي وزوجي وأخي أكرمهم الله بالشهادة وأحملهم لأدفنهم.
هذه الروح التي جسدتها هذه المرأة المسلمة وعائلتها المؤمنة... وجسّدها عبد الله بن جموح، إنما هي دليل العظمة في سيرة الرسول ونحن بحاجة إلى مثل هذه الروح، ونريد أن ندرس السيرة النبوية بهذا المنطلق، أن نستلهم الروح من سيرة النبي ليكون كل واحد منا، أبا ذر، وعمار، وياسر، وتكون نسائنا، كسمية وامرأة عبد الله بن جموح وسائر النساء المجاهدات في تاريخنا الإسلامي.
نريد أن ندرس السيرة النبوية لنحصل على هذه الروح.
هذه الروح لو عادت إلى جسد الأمة الإسلامية لوجدنا أن واقعنا يتغير، وأن بلادنا تتغير، وأوضاعنا الاجتماعية والسياسية والوحدوية تختلف عما هي عليه الآن من تشرذم وتخلف وحرمان وجهل لأن في سيرة النبي يمكن أن نجد شفاء لأمراضنا الروحية ودواء لمشاكلنا الاجتماعية وتخلفنا.